شهدت حلقة نقاش سدّ النهضة الإثيوبي: رهانات الأمن المائي وتحولات الجغرافيا السياسية في حوض النيل، التي نظمها المعهد العالمي للدراسات الاستراتيجية جسر بالشراكة مع المركز الإفريقي للأبحاث أفر بوليسي، نقاشاً معمقاً حول الأبعاد الجيوسياسية والأمنية والاقتصادية للصراع بين مصر والسودان وإثيوبيا، في ظل تحولات إقليمية ودولية تجعل من أزمة السدّ أحد أكثر الملفات تعقيداً في القارة الإفريقية.
افتتح السفير الدكتور محمد علي الشيحي الجلسة بالتأكيد أن أزمة سد النهضة تجاوزت كونها ملفاً مائياً لتتحول إلى قضية ترتبط بالأمن القومي وإعادة تشكيل موازين القوى في شرق إفريقيا. فمع تصاعد التنافس الدولي على البحر الأحمر وممرات التجارة الحيوية، أصبحت المياه جزءاً من الجغرافيا السياسية الجديدة. وأوضح أن مسار التفاوض كشف حدود المقاربات التقليدية وهشاشة إدارة الموارد المشتركة، مشيراً إلى خطورة غياب اتفاق قانوني ملزم يزيد هشاشة دول المصب في ظل الضغوط المناخية والغذائية. وشدد على ضرورة تجنب التصعيد واعتماد مقاربة دبلوماسية تعاونـية تعيد بناء الثقة وتفتح المجال لشراكات جديدة في إدارة المياه والطاقة. كما أكد التزام المعهد بدعم البحث والتحليل لتعزيز فهم استراتيجي يساعد صانعي القرار على استشراف مستقبل الأزمة.
قدّمت المداخلة الأولى قراءة تربط بين مشروع السد والتحولات الجيوسياسية في القرن الإفريقي، معتبرة أن المشروع الذي كان يمكن أن يكون منصة للتعاون أصبح ساحة تنافس بسبب انعدام الثقة وتغليب الاعتبارات السيادية. فقد استندت إثيوبيا إلى تمويل داخلي بعد انسداد التوافق الثلاثي، ما جعل السد رمزاً للسيادة ومحركاً للحشد الوطني. وبيّنت المداخلة أن السد يمثل ركيزة استراتيجية لإعادة تشكيل منظومة الطاقة الإثيوبية وفتح المجال لربط كهربائي واسع مع دول شرق إفريقيا، إضافة إلى إمكانات التحول الزراعي وتقليل الاعتماد على الأمطار.
وفي المقابل، أشارت إلى مخاوف مصر المرتبطة بالاعتماد شبه الكامل على مياه النيل، معتبرة أن هذه المخاوف كان يمكن احتواؤها عبر إطار تعاوني يقوم على تبادل المنافع. ورأت أن غياب الثقة حوّل السد من فرصة للتكامل إلى رمز للصراع. وتوقعت ثلاث مسارات مستقبلية: تعاون يضمن المصالح المشتركة عبر إدارة الجفاف وتبادل البيانات؛ أو تنافس محدود؛ أو استمرار التوتر إذا بقيت البيئة السياسية على حالها. وأكدت أهمية العودة إلى مبادئ القانون الدولي، بما في ذلك اتفاقية الأمم المتحدة 1997 وإعلان المبادئ 2015.
سلطت المداخلة الثانية الضوء على التحديات الوجودية التي تواجه مصر بعد انتقال إثيوبيا من موقع المطالبة بالتنمية إلى موقع التحكم في جزء جوهري من أمن القاهرة المائي. فالعجز المائي المصري البالغ 20 مليار م³ سنوياً يجعل أي خفض في تدفقات النيل تهديداً مباشراً. ومع محدودية البدائل—كالتحلية والمياه الجوفية—تظهر هشاشة الأمن المائي المصري أمام تغييرات إدارة السد. أما السودان، فعرضت المداخلة رؤيته المتذبذبة: فهو بين مكاسب محتملة كتقليل الطمي وتنظيم الجريان والحصول على كهرباء منخفضة التكلفة، وبين مخاطر هيدروسياسية وسياسية نتيجة قرب السد وتعقيدات العلاقة مع إثيوبيا. ويتداخل موقف السودان أيضاً مع أزماته الداخلية والنزاع الحدودي مع إثيوبيا، ما يجعل الورقة المائية عرضة للتسييس. وأشارت المداخلة إلى أن غياب الإدارة المشتركة وامتناع أديس أبابا عن الالتزام بآليات تنسيق فني ملزم يعوق أي تقدم، ورجحت اعتماد مصر على استراتيجية مزدوجة تجمع بين تكثيف حضورها في شرق إفريقيا وتطوير شراكات مائية واقتصادية، إلى جانب تعزيز التعاون المستقبلي مع السودان بعد استقراره.
قدمت المداخلة الثالثة رؤية تربط أزمة السد بالتحولات الجيوسياسية في القرن الإفريقي، مؤكدة أن المياه أصبحت جزءاً من أدوات النفوذ بين القوى الكبرى. ورأت أن السد كشف حدود المنظومة القانونية التقليدية التي اعتمدت عليها مصر والسودان، فيما سمح لإثيوبيا بإعادة تشكيل معادلة القوة في حوض النيل. وربطت المداخلة بين الأزمة والموقع الجيوستراتيجي لإثيوبيا قرب باب المندب والبحر الأحمر، ما جعل السد جزءاً من صراع أوسع يتداخل فيه نفوذ الولايات المتحدة والصين وروسيا وإسرائيل ودول الخليج.
وأوضحت أن جذور الأزمة تعود إلى الفشل في بناء إطار قانوني مستقر منذ التسعينيات، مع تشجيع قوى خارجية لدول المنابع على تجاوز منظومة الحقوق التاريخية. وقدمت قراءة لدور القوى الكبرى: روسيا حافظت على توازن دون تدخل حاسم؛ الولايات المتحدة أدارت التوتر دون حله؛ الصين ركزت على المكاسب الاقتصادية مع تجنب الانخراط السياسي المباشر؛ بينما لعبت إسرائيل دوراً نشطاً في استغلال التناقضات الإقليمية. وانتقدت المداخلة ضعف الاتحاد الإفريقي وتباين المواقف العربية، معتبرة أن الأزمة عابرة للحدود وقد تبقى أداة ضغط طويل الأمد ما لم يتم التوصل إلى اتفاق ملزم.
ركزت المداخلة الرابعة على البعد المستقبلي للأزمة، مقدمة رؤية لتحويل السد من مصدر للتوتر إلى محرك للتكامل الاقتصادي. وأشارت إلى إمكان تحقيق "الكتلة الاقتصادية للنيل الشرقي" بحلول 2050 عبر إدارة مشتركة للتدفقات المائية، وتطوير شبكات كهرباء ومشاريع ري مشتركة بين الدول الثلاث. وأوضحت أن اكتمال السد ووصوله إلى مستوى 640 متراً دون تنسيق أدى إلى فيضانات في السودان، ما يعكس الفجوة بين القدرات التقنية والقيود السياسية. ورأت المداخلة أن اختلاف النظرة إلى النهر إثيوبيا كمورد وطني، ومصر والسودان كمورد جماعي—يمثل عقبة مركزية، إضافة إلى تدخلات القوى الدولية التي تسعى لاستغلال موقع السد لتحقيق مكاسب جيوستراتيجية. وأكدت ضرورة تفعيل الاتفاقيات السابقة واستمرار الحوار الدبلوماسي والبحثي لضمان استقرار الإقليم، وتجنب انزلاق المياه إلى أداة للصراع، في ظل إمكانية تحويلها إلى عنصر للتنمية المشتركة.
خلاصة عامة تكشف المداخلات أن سد النهضة هو نقطة تقاطع بين التنمية والسياسة والجغرافيا الاستراتيجية، وأن مستقبله سيحدد شكل الأمن المائي وموازين القوى في شرق إفريقيا وجوار البحر الأحمر. وبينما يحمل السد فرصاً كبيرة للتنمية والتكامل، فإن غياب الثقة وانقسام المواقف الإقليمية والدولية يجعلان من التوصل لاتفاق ملزم ضرورة استراتيجية، ليس فقط لتجنب الصراع، بل لبناء نموذج تعاون إقليمي قادر على مواجهة تحديات المناخ والأمن والطاقة في العقود المقبلة.
أهم التحديات والتوصيات
أولاً: التحديات
غياب إطار قانوني ملزم لإدارة مياه النيل، ما يفتح الباب أمام التأويلات المتناقضة والقرارات الأحادية.
تنامي التنافس الدولي في القرن الأفريقي والبحر الأحمر، بما يحوّل المياه إلى ملف أمن دولي أكثر منه نزاعاً إقليمياً.
توظيف دول كبرى للملف المائي كأداة نفوذ الولايات المتحدة، الصين، روسيا، دون رغبة حقيقية في حل النزاع.
اختراقات إسرائيل السياسية في دول المنابع بما يعزز قدرتها على التأثير في معادلات الأمن المائي لمصر.
ضعف قدرة الاتحاد الأفريقي على لعب دور الوسيط الملزم نتيجة نفوذ خارجي يفوق قدراته.
هشاشة البيئة السياسية في دول المنطقة ما يجعل ملف السد عرضة للتسييس والتوظيف الاستراتيجي.
ارتفاع مخاطر الجفاف وتغير المناخ، ما يضاعف حساسية إدارة المياه ويجعل أي خفض في التدفقات تهديداً مباشراً.
تحوّل إثيوبيا إلى فاعل مهيمن في المعادلة المائية عبر فرض مشروع أحادي دون التزام بقواعد القانون الدولي.
انكشاف الأمن المائي المصري بفعل العجز السنوي الكبير ومحدودية البدائل المتاحة.
احتمال استخدام المياه كورقة ضغط سياسية في بيئة إقليمية شديدة الاستقطاب.
تراجع الثقة بين مصر وإثيوبيا والسودان وفشل إعلان المبادئ في خلق أرضية مشتركة. تآكل مبدأ العمل الجماعي في حوض النيل وتراجع مسار مبادرة حوض النيل لصالح التحركات الثنائية.
مخاطر فنية على السودان بسبب غياب تبادل المعلومات الدقيق، وتأثير ذلك على السدود السودانية خاصة الروصيرص.
فشل الإدارة المشتركة للموارد نتيجة غياب إطار تعاون مستدام منذ اتفاقيات 1929 و1959.
غياب التمويل الدولي بسبب عدم وجود توافق ثلاثي، مما زاد الضغط الداخلي على إثيوبيا.
اختلال التوازن بين الاحتياجات التنموية لإثيوبيا والاعتماد الوجودي لمصر على النيل.
هشاشة الأمن الغذائي والمناخي في المنطقة، التي تزيد من حساسية الخلاف.
تصاعد الخطاب الإعلامي المواجه في الدول الثلاث، ما يهدد بزيادة التوتر.
إشكالية التدفق المائي لسد النهضة. عدم وجود اتفاق واضح حول إدارة منسوب السد الوصول إلى 640 م، النزول منه، وإدارة الاحتياطيات. إمكانية حدوث فيضانات أو أضرار زراعية في السودان نتيجة إدارة غير متوافقة لمنسوب السد.
الفجوة بين الإمكانات الفنية والسياسة الواقعية هناك إمكانات هائلة للتعاون المائي والاقتصادي بين الدول الثلاث مصر والسودان وإثيوبيا، لكن القيود السياسية والتاريخية تعيق استغلال هذه الإمكانات.
ثانياً: التوصيات
إعادة بناء إطار تفاوضي ملزم تحت رعاية دولية إقليمية مشتركة توازن بين دور الاتحاد الأفريقي والأمم المتحدة لضمان الضغط على إثيوبيا.
تعزيز التكامل المصري السوداني في ملفات الطاقة والمياه والاستخبارات المائية بما يرفع كلفة التوجه الأحادي.
تنويع أدوات القوة الناعمة والصلبة في شرق أفريقيا عبر مشروعات تنمية، تبادل تقني، واستثمارات استراتيجية لاستعادة النفوذ في دول المنابع.
إشراك الشركاء الدوليين وفق معادلة مصالح واضحة تجعل من استقرار حوض النيل هدفاً مشتركاً وليس ساحة تنافس.
بناء آلية إنذار مبكر للمخاطر الهيدرولوجية بين مصر والسودان وإثيوبيا، لتقليل تداعيات الجفاف أو السدود الأحادية.
تطوير استراتيجية عربية منسّقة تمنع الازدواجية في المواقف وتمنح مصر والسودان دعماً سياسياً أقوى.
دعم إصلاح الاتحاد الأفريقي ليصبح أكثر قدرة على إدارة النزاعات المائية الكبرى وتجاوز حالة الشلل المتكررة.
تعزيز التحركات الدبلوماسية المصرية والسودانية في المنظمات الدولية والإقليمية لتثبيت مبادئ الأمن المائي وتقييد المشروعات الأحادية.
تطوير شبكات تعاون ثنائي وثلاثي جديدة في الطاقة والزراعة والربط الكهربائي، بما يخلق مصالح مشتركة تقلل دوافع التصعيد.
رفع كفاءة استخدام المياه في مصر والسودان عبر الاستثمارات في تقنيات الري الحديثة وتقليل الفاقد.
تحصين السودان فنياً وسياسياً من خلال بناء منظومات إنذار مبكر، ودعم السدود القائمة، وتجنب الاعتماد المفرط على حسن نية الطرف الإثيوبي.
إعادة إحياء مبادرة حوض النيل بصيغة جديدة أكثر واقعية، تركز على التخطيط المشترك بدل التركيز على تقسيم الحصص.
اتفاق ثلاثي لإدارة فترات الجفاف الممتد وتبادل فوري للبيانات بين السدود الثلاثة.
تحييد الملف عن التوظيف السياسي والإعلامي وتطوير خطاب مبني على المصالح المشتركة.
دعم مشاريع الربط الكهربائي الإقليمي بما يجعل السد جزءاً من شبكة تكامل لا مصدر خلاف.
إطلاق مبادرة إقليمية للأمن المائي والغذائي بقيادة الدول الثلاث، تعالج آثار المناخ والتوسع السكاني.
إعادة النظر في اتفاقية عنتيبي بصيغة توافقية تعيد بناء نظام مائي عادل ومتوازن لجميع دول الحوض.

December 2, 2025 - December 2, 2025